معنى كلمة الغائط
من أكثر الألفاظ التي وقع فيها اختلاف المفسرين واللغويين عبر القرون لفظ الغائط الوارد في قوله تعالى
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقْرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا۟ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا۟ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا۟ مَآءً فَتَيَمَّمُوا۟ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ (النساء 43)
المشهور في كتب التفسير أن الغائط هو مكان قضاء الحاجة ثم أُطلق على نفس الحدث إخراج الفضلات بطريق المجاز لكن عند التأمل في الآية والسياق التاريخي واللغوي يظهر أن الأمر أعمق من ذلك
نلحظ أن النص القرآني جاء بتعبير أو جاء أحد منكم من الغائط واستخدمت الآية لفظ منكم التي تفيد التبعيض أي ليس كل الناس يأتون من الغائط بل بعضهم فقط ولو كان المقصود إخراج الفضلات لكان الأمر شاملاً لجميع البشر دون استثناء إذ لا يستثنى منه أحد
هذا يدفع للتفكير في معنى آخر يتناسب مع التبعيض وهو أن الغائط مكان يقصده بعض الناس لا الجميع
يرتبط لفظ الغائط في العربية بجذر غَوَطَ وهو ما انخفض من الأرض لذلك فالأصل اللغوي للغائط هو الأرض المنخفضة وليس الحدث البيولوجي نفسه
وقد ذكر الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب ص 281-282 أوصافًا لعدد من أودية اليمن التي كانت تسيل في منطقة تسمى الغائط وبيّن أن هذه الأماكن كانت عبارة عن حقول زراعية منخفضة
إذن الغائط كان معروفًا في بيئة العرب كأرض زراعية تستقر فيها المياه وتجري إليها الأودية
ما يزال هذا المعنى حيًا في لهجات عربية حتى اليوم خصوصًا في مصر والسودان حيث تُسمى الحقول الزراعية الغيط وجمعها غيطان هذا الامتداد اللغوي يؤكد أن استعمال الكلمة بمعنى الحقل أو الأرض الزراعية لم ينقطع منذ الجاهلية
إذا أخذنا هذا المعنى بعين الاعتبار يصبح النص القرآني أكثر انسجامًا أو جاء أحد منكم من الغائط
أي من الحقول المنخفضة التي يقصدها بعض الناس للعمل والزراعة أو لجلب الماء وهذا يتوافق مع التبعيض في منكم فليس كل الناس يخرجون إلى الحقول بل المزارعون ومن يرتبط عملهم بالأرض
ومن ثمّ فإن العودة من الغائط تعني العودة من مكان قد يتعرض فيه الإنسان للعرق أو الاتساخ أو ملامسة الماء والطين مما يجعله بحاجة إلى الطهارة قبل الصلاة
مع مرور الزمن ومع انتقال معنى الغائط من المكان المنخفض إلى الاستعمال المجازي لقضاء الحاجة لأن العرب اعتادوا قضاء حاجتهم في الأماكن المنخفضة بعيدًا عن الناس غلب هذا المعنى الأخير في التفسير الفقهي ومن هنا فسّر المفسرون القدامى الغائط بأنه قضاء الحاجة
لكن القراءة التاريخية اللغوية تظهر أن هذا الفهم كان نقلة اصطلاحية لاحقة بينما الأصل أوسع وأعمق يرتبط بالبيئة والزراعة
إن دراسة لفظ الغائط في القرآن تكشف لنا عن ثراء اللغة العربية وتطور دلالاتها وتذكرنا بأهمية العودة إلى الأصول اللغوية والجغرافية لفهم النص القرآني بعيدًا عن الاصطلاحات الفقهية المتأخرة
فالغائط لم يكن مجرد مكان لقضاء الحاجة بل كان في الأصل أرضًا زراعية منخفضة يقصدها بعض الناس لا كلهم، وما زال أثر هذا المعنى حاضرًا في اللهجات العربية المعاصرة
تجد هنا مزيدا من الدروس القرآنية —