درس: واضربوهن
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين.
مرة بعد أخرى يظهر جليا أن عدم الإلتزام بالمنهجية الصحيحة لتدبر القرآن الكريم يؤدي دائما إلى التخبط والإعطباطية في تفسير آيات القرآن الكريم.
ومن باب الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، فالمنهجية الصحيحة لتدبر القرآن الكريم هي كالتالي:
1. تجميع جميع الآيات التي تتكلم عن الموضوع نفسه أو الآيات التي تستعمل الكلمة قيد البحث إن كان الهدف هو معرفة معنى الكلمة القرآنية. وهذا هو أهم جزء من منهجية تدبر القرآن، وغالبا ما تغنيك عن المراحل الأخرى، فستجد القرآن دائما يبين نفسه بنفسه، والآيات تشد عضد بعضها البعض، وتتكامل وتبين بعضها البعض.
2. إستعمال آليات اللسان العربي، في غالب الأحيان هذه المرحلة نضطر إليها إذا كنا نبحث عن معاني بعض الكلمات القرآنية التي حرفها إبليس وجنوده بالكامل في ذهن المسلم، كلمات مثل: الإيمان، الإسلام، الطاعة، الشرك... وإلا فإن تجميع الآيات لنفس الموضوع يغنينا عن هذا.
3. إستحضار كليات الدين والآيات المحكمات عند تدبر بعض الآيات المتشابهة أو عند إستخراج الأحكام والتشريعات. مثلا من كليات الدين ومن الآيات المحكمات: لا إكراه في الدين. هذه قاعدة عامة لا استثناء لها وتدعمها عشرات العشرات من الآيات الأخرى. وبالتالي عند تدبرنا لآية ما. إذا كان تدبرنا أو تفسيرنا سنخرج به بنتيجة مخالفة لهذه الآيات المحكمة فهذا إستنباط خاطئ قولا واحدا.
4. إذا كان موضوع البحث هو آية كاملة فلابد من إستحضار سياقها كذلك، إرجع بضع آيات قبلها وبضع آيات بعدها ، فالسياق مهم جدا في هذه الحالات.
نأتي إلى موضوع درسنا هذا وهو الضرب، وخصوصا كلمة واضربوهن في هذه الآية:
﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُوا۟ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ ۚ فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـٰفِظَـٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ۚ وَٱلَّـٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا۟ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ ( النساء 34 )
هذه الآية التي لطالما تجنبها الدعاة المتنورون والمعاصرون خصوصا الذين يحاولون الإنسلاخ من الفهم التراثي، أو الذين ينشطون في الدول الغربية فيجدون حرجا في هذه الآية. فمنهم من حاول إعتبارها لا تصلح لعصرنا هذا ومنهم من حاول تحريف معنى واضربوهن، ومنهم من سوغ التفسير التراثي بأن الضرب رمزي ويتم بقطعة سواك.
وسيرى القارئ الكريم أن مشكلتهم كلهم أنهم لا يتدبرون القرآن . وسنرى أن الآية الكريمة ليس فيها حرج ولا أي شيء وسنقرأها بفخر أمام العالمين. ﴿وَجَـٰهِدُوا۟ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعْتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ﴾ ( الحج 78 )
وردت كلمة "ضرب" ومشتقاتها 58 مرة في القرآن الكريم وكلها جاءت بمعنيين أثنين. وسيلاحظ المتدبر للقرآن أن كثيرا من كلمات القرآن تأتي متشابة مثنى مثنى بمعنيين مثلا رجالا بمعنى الرجال وبمعنى عكس ركبانا.
● المعنى الأول لكلمة ضرب وهو المعنى الشائع وهو إيقاع شيء على شيء يحدث فيه أثرا.
﴿وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ۖ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ( البقرة 60 )
الضرب هنا هو المعنى السائد، وقد يحتمل المعنى الثاني الذي سنبينه، وهذا من عضمة هذا القرآن، تجد للكلمة معنيين مختلفين تماما يؤديان إلى النتيجة نفسها.
﴿فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْىِ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ ءَايَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ( البقرة 73 ) وهنا كذلك الضرب هو الضرب المعروف. الذي يُحْدِث أثرا في المضروب.
وبهذا المعنى يأتي ضرب المثل، فهو إيقاع أو إسقاط المثل ( قصة أو حادثة ) وقعت لأناس على أناس آخرين.
﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَـٰهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُۥنَ ۚ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ( النحل 75 )
وورد ضرب المثل كثيرا في القرآن الكريم.
﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوٓا۟ إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا۟ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَـٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ﴾ ( آل عمران 112 )
وقعت عليهم الذلة والمسكنة وسقطت عليهم وبقي أثرها عليهم. هذا هو الضرب في المعنى السائد.
وهناك الضرب في الأرض أي الخروج والسفر.
● لكن هناك معنى آخر للضرب وهو التفريق.
﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى ٱلْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَـٰفُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ﴾ ( طه 77 )
اضرب هنا هي فرِّق البحر فرقين أو نصفين
﴿يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُوا۟ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُوا۟ نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُۥ بَابٌۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَـٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ﴾ ( الحديد 13 )
وهذه الآية تُظْهِر هذا المعنى بشكل واضح جلي، ضُرِبَ بينهم بسور أي فُرِّقَ بينهم بسور.
فالضرب قد يأتي بمعنى التفريق.
وهنا نأتي للآية.
﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُوا۟ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ ۚ فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـٰفِظَـٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ۚ وَٱلَّـٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا۟ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ ( النساء 34 )
بالنسبة للمرأة الناشز. واختلف اللغويون في النشوز، فمنهم من يفهمه أنه الإقتراب أي تلك المرأة التي لها إلتصاق مَرَضيُّ بزوجها. ومنهم من فهمها أنها المرأة التي تتكبر على زوجها وتزدريه لكونها هي من تُنفِقُ.
مهما كان معنى النشوز فالحل هو بالتدريج:
1. الموعضة، فيعضها زوجها وينصحها أن تقلع عن هذا التصرف. فإن لم تنفع الموعضة والنصح
2. الهجران في المضاجع ، أي ينام بجانبها لكن يعتزلها في الجماع وغيره. فإن لم ينفع هذا كذلك
3. الإفتراق عنها , إضربوهن أي إفترقوا عنهن ليس فراق طلاق، بل فراق بُعْدٍ، وهو المرحلة الموالية للهجران في المضاجع. ولاحظ حرف الجر في، أي في المرحلة الأولى لا يبتعد عنها في الفراش، لكن في مرحلة الضرب ( الفراق ) يبيت في مكان آخر مخالف تماما وهو هجر كلي حتى ترجع عن نشوزها.
﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِىٓ إِخْوَٰنِهِنَّ أَوْ بَنِىٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيْرِ أُو۟لِى ٱلْإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا۟ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ ٱلنِّسَآءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ( النور 31 )
يضربن بخمرهن على جيوبهن هي إسقاط اللباس على الجيوب وهي أسفل العنق ومنطقة البطن.
ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن بمعنى التفريق، عندما تجلس المرأة لا تفرق رجليها.
ونعود لآية
﴿وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ۖ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ( البقرة 60 )
المعنيان صحيحان ومرتبطان، إسقاط العصى على الحجر ضرب للحجر، وعندما ينقسم الحجر بسبب الماء يكون قد ضُرِبَ أي فُرِقَ.
وكذلك الضرب في الأرض، فقد يُفهم أنه إيقاع الأرجل على الأرض عند المشي والسفر، وقد يفهم بمعنى تفريق الأرجل عن الأرض فلا يستطيع الشخص أن يمشي دون رفع الرجل ثم إسقاطها على الأرض.
تجد هنا مزيدا من الدروس القرآنية —