درس الشرك بالله
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
أقولها واكررها إن حرب إبليس على القرآن الكريم كانت حرب تحريف معاني الكلمات في عقول الناس، واستغل طيبوبة المسلم وحسن ظنه بالأولين فسهل عليه هذا التحريف، لأن لسان حال المسلم العادي هو: إن الاولين كانوا احسن منا واكثر حرصا على الدين وأعلم منا واعرف باللسان العربي.
في هذا الدرس سنضع هذا الإعتقاد وهذه الثقة في الميزان وسيرى القارئ الكريم أن هؤلاء بشر مثلنا، بل إنه في كثير من الأحيان، تأثير إبليس عليهم كان أبلغ،
إنك إن سألت اي مسلم في الشارع، ناهيك عن أي شيخ من الشيوخ أو ما يسمون أنفسهم بالدعاة، ما هو الشرك بالله، أكاد أجزم أن 99.9999% من الناس سيقولون لك هو اتخاذ أصنام آلهة من دون الله، وقد يزيدك الشيخ بعض التفصيلات التراثية كالشرك الأصغر والشرك الأكبر والرياء وغير ذلك.
لنسأل القرآن الكريم وما خاب من سأله، فهو مصدر الهدى والبشرى. كما وصفه الله تعالى.
سنجد ثلاث آيات محورية تبين بشكل ساطع لامع وواضح أن الشرك بالله هو شيء آخر مخالف لاتخاذ أرباب من دون الله،
لنبدأ على بركة الله
الآية الأولى :
﴿قُلْ يَـٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْا۟ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍۭ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَقُولُوا۟ ٱشْهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران 64)
في هذه الآية يدعو الله سبحانه وتعالى. أهل الكتاب على لسان رسوله الكريم لشيئين مختلفين:
1. ألا نشرك بالله شيئا وهذا ما نريد معرفة معناه في هذا الدرس
2. ألا نتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله، وهذا هو المعنى السائد عند الناس بالشرك.
إن الدارس للقرآن الكريم يعلم جيدا دقته في إختيار الكلمات وأنه ليس به حشو وركاكة أو تكرار.
فالله هنا فرق بين الشرك واتخاذ الأرباب من دونه.
وإن لم يتضح جيدا أن القرآن يعتبر الشرك شيئا واتخاذ الأرباب من دون الله شيئا آخر، فالآيات الموالية ستفرق بين الأمرين بما لا يدع مجالا للشك.
الآية الثانية:
﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوٓا۟ أَن يُلْقَىٰٓ إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَـٰفِرِينَ (86)• وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (87)• وَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ۘ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُۥ ۚ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)• ﴾ (القصص الآيات 86-88)
في هذه الآيات الكريمة، يقول الله تعالى لرسوله الكريم أن يدعو إليه وألا يكون من المشركين ويقول له مباشرة بعد ذلك ألا يدعو من دون الله إلها آخر. ونحن نثق أن القرآن بليغ في تعبيره، لا يشوبه حشو أو تكرار، إلا أن يكون الشرك شيئا مخالفا تماما لاتخاذ إله من دون الله،
وهنا أريد أن أنبه القارئ الكريم إلى شيء في غاية الأهمية، وهو ربط الشرك بالدعوة إلى الله،
فالآية تقول لرسول الله أن يدعو إلى الله دون أن يكون من المشركين، وكأن الدعوة الى الله قد يكون بها شِرْك أو بالأحرى إشراك، وهذا هو المعنى الذي سنوضحه من خلال الآيات.
الآية الثالثة :
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)• مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (31)• مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا۟ دِينَهُمْ وَكَانُوا۟ شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍۭ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)• ﴾ (الروم الآيات 30-32)
في هذه الآيات وصف الله تعالى المشركين بأنهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل فرقة بما لديهم فرحون،
في سياق هذه الآيات ليس هناك أي ذِكر لإتخاذ آلهة من دون الله، بل الأمر على العكس من ذلك، هؤلاء متدينون، وكل فرقة فرحة بما لديها، ويظنون أنهم أهل حق، وأن غيرهم على باطل. وبالتالي فعلوا شيئا جعلهم مشركين،
ليس تفريقهم لدينهم هو ما جعلهم مشركين، لأن الإختلاف والتفرقة من سنن الله في هذا الإنسان، ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم، لكن وبالرجوع إلى الآية السابقة من سورة القصص ، يمكن إستنباط أن دعوتهم إلى الله كان بها إشراك فأصبحوا مشركين، بسبب إعتقادهم العميق أنهم على حق، لأنهم فرحون بما لديهم، أرادوا فَرْضَ دينهم على الفرق الأخرى،
أظن أنه بعد تقديم هذه المقاطع الثلاثة أصبح واضحا جدا أن الشرك بالله مخالف تماما لإتخاذ آلهة من دون الله أو المعنى الشائع للشرك عند الناس.
ومن لم تُقنِعه هذه الآيات على الأقل بهذا الإختلاف فلا حاجة لأن يُكمل القراءة.
لمعرفة معنى الشرك بالله يكفي ببساطة أن نعرف الفعل الذي مصدره الشرك، وهو فعل أشرك، وهو فعل متعد،
كقوله تعالى :
﴿وَٱجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى (29)• هَـٰرُونَ أَخِى (30)• ٱشْدُدْ بِهِۦٓ أَزْرِى (31)• وَأَشْرِكْهُ فِىٓ أَمْرِى (32)• ﴾ (طه الآيات 29-32)
يدعو موسى عليه السلام الله تعالى أن يُشْرِكَ معه أخاه هارون في الرسالة،
وكقوله تعالى
﴿قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا۟ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا﴾ (الكهف 26)
فالله سبحانه وتعالى لا يشرك معه أحدا في ملكه،
وهنا أريد أن أنبه القارئ إلى الإختلاف الجوهري بين فعل أشرك وفعل شارك،
فعل أشرك فيه قوة ولا يقبل الرد، مثلا: أَشْرَكَ الأب إبنيه عمرا وزيدا في إدارة شركته
فالمُشْرِكُ هو الأب
والمُشْرَكُ هو الإبنان، أُشْرِكا في إدارة الشركة مرغمان من قبل أبيهما
أما المشاركة فتكون بإرادة المُشْتَرِكين وبإتفاق بينهم وليس فيها إشراك أو إرغام، كقوله تعالى :
﴿وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَـٰدِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (الإسراء 64)
فإبليس لا يفرض علينا أن نشترك معه في الأموال والأولاد، بل يكون ذلك بالإغواء فقط، والناس يتبعونه بوسوسته،وليس له عليهم من سلطان.
إذن هل اتضح الآن معنى الشرك بالله، ولماذا قال الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم : وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
أي أدع إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة بدون إكراه، بدون إشراك، لأنه لا إكراه في الدين، لا تحاول أن تُشْرِكَهُم معك في دينك بالقوة (وبالقوة هنا حشو من طرفي ككاتب لأن الإشراك يحمل في طياته الإرغام والقوة)
لكن ما محل حرف الجر الباء في العبارة الشرك بالله،
الباء هنا سببية، أي إتخاذ الله سببا في إرغام الناس على إتباع الدين،
المعنى هو
أَشْرَكْتُ عَمْرَا معي في دين الإسلام بسبب الله لأن الله يأمرني بذلك
عندما فتح المسلمون البلدان المجاورة لهم فتحوها باسم الله، أي أن الله يأمرهم بهذا
عندما قام الصليبيون بحملتهم ضد المسلمين، فعلوا ذلك باسم الله (بالله)
ولهذا السبب قال لقمان لإبنه
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَـٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَـٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان 13)
ولهذا
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا﴾ (النساء 48)
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلًۢا بَعِيدًا﴾ (النساء 116)
لا تظن أخي الكريم أن الله ينتقم لنفسه لأن المشرك إتخذ من دونه إلها آخر، فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، ولا يضره أبدا لو أن كل خلقه لا يعبدونه، إن الظلم في الشرك يطال العباد أنفسهم، وويلاته تسقط عليهم من بعضهم البعض، والمتدبر للقرآن الكريم يعلم جيدا أن كل رسالة الله للناس أنفسهم وليس فيها شيء له سبحانه، فهو الغني سبحانه
﴿إِن تَكْفُرُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا۟ يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾ (الزمر 7)
والدارس للتاريخ يعلم جيدا أن أكثر الحروب دموية كانت باسم الله على مر التاريخ.
كان بودي أن أزيد وآتي بعشرات الآيات التي تذكر "الشرك" كما يعرفه العامة لكن بعبارات مختلفة مثل يتخذون آلهة من دون الله، يدعون من دون الله، يدعون مع الله...
لكن أبدا لن تجد يُشْرِكون مع الله، لو جاء هذا التعبير في القرآن لما كان القرآن من عند الله ،لأن فعل أشرك المتعدي يسقط تأثيره فعليا (وليس ظنيا) على المُشْرَكين أي أنهما يقتسمان الملك بينهما، تعالى الله هن ذلك علوا كببرا. أما إتخاذ إله من دون الله أو أن تدعو إلها مع الله فكثير جدا، لكنه من وجهة نظر ذلك الداعي، فهو يظن أن هناك إله مع الله ويدعوه،لكن هل هو حقا إله؟
وكما أقول دائما وهذه قاعدة لها أصلها التابث في القرآن الكريم:
ما يُعتبر الأسوأ في دين الله هو ما يكون تأثيره على الغير بالسوء
وما يُعتبر الأفضل في دين الله ما يكون تأثيره على الغير بالحسن.
بمعنى الذنب الشخصي الذاتي اللازم قد لا يعبأ به الله تعالى
أما الذنب المتعدي الذي يؤثر على الآخرين هو الأعظم عند الله
والشرك بالله فعل متعد وإفتراء على الله فهو لا يُكرِه أحدا على الدين
أما إتخاذ إله من دون الله فهو فعل لازم، شخصي قد يكون أهون عند الله
وهذا الفهم (اللازم والمتعدي) متأصل في كتاب الله. وواضح جدا للمتدبر للقرآن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تجد هنا مزيدا من الدروس القرآنية —